GuidePedia

الدكتور أديب معوض أول وأقدم قومي عربي

لبناني يكتب عن الأكراد !

 

لم يكن للشعب العربي رأي عام بخصوص القضية الكوردية، ولم يهتم بها كثيرا ، بل حتى الذين يعتبرون انفسهم تقدميين وديمقراطيين اتخذوا مواقف سلبية من حقوق الكورد القومية، واورد هنا شهادتين لمثقفين عراقيين، على سبيل المثال، تدلان بشكل واضح لا لبس فيه على : ان العرب في العراق الدولة التي تضم جزءأ من كوردستان ويشكل فيها الكورد ربع سكانها كانوا لا يعرفون الشئ الكثير عن الكورد وقضيتهم القومية .

يقول المثقف العربي والكاتب الاكاديمي الدكتور شاكر خصباك : " ابتداءا اقول ...انني لم اعرف الشئ الكثير عن الاكراد، شأني شأن أي مواطن عراقي اخر، وهذا لاشك نقص كبير ، فالاكراد يكونون ربع سكان البلاد، ويقع التقصير في ذلك على عاتق المسؤولين عن التعليم ، فقد كان ينبغي ان تقدم للتلاميذ في المدارس العربية المعلومات السكانية عن الاكراد...ان بعض العرب من غير المتعلمين طبعا، لايعلمون بان الاكراد يتكلمون لغة تختلف كليا عن اللغة العربية، وربما تصوروا ان لغتهم هي لهجة اخرى من اللهجات التي تنتشر في العراق ، مثل اللهجة البغدادية واللهجة الموصلية واللهجة البصراوية واللهجة التكريتية...الخ وكنت اعلم بالطبع ان الاكراد قد قاسو من المظالم والكوارث منذ بدء الحكم الوطني في العراق، أي منذ اوائل العشرينات ...وكانوا يقومون بثورات متكررة من اجل نيل حقوقهم وتحقيق ذاتيتهم ، فكانت تجيش لهم الجيوش وترسل الطائرات الى قراهم لقصفها بالقنابل ، ومنذ طفولتي وانا اسمع بما يسمى (الحركات في الشمال) والتي يقصد بها الحركات العسكرية التي تقوم لقمع الثورات الكردية. ولكن أي واحد منا نحن المواطنين العرب لم يحاول استجلاء الحقائق عن الاكراد والتعرف عن كثب على مظالمهم ومشاكلهم الاجتماعية والاقتصادية و السياسية . وهو تقصير منا لاشك فيه ..

اما الكاتب والمثقف والسياسي المعروف عزيز شريف (1904-1988) والذي وضع كتابا بعنوان (المسالة الكردية في العراق) وصدر سنة 1950، فقد اكد فيه على حق الشعب الكوردي في تقرير مصيره كأي شعب من شعوب العالم ، لانه يستمد هذا الحق من مساهمته في تقدم الحضارة الانسانية ومن كفاحه المجيد في سبيل الحرية .

اما عن موقف العرب من حقوق الكورد القومية فكتب يقول "بين العرب و الاكراد تقارب نفسي، تركه تاريخهما المشترك من قرون طويلة فالعربي الذي يعرف شيئا من التاريخ يعتبر صلاح الدين الايوبي من اسلافه الذين يعتز بهم ، كما ينظر الكوردي هذه النظرة الى السلف الصالح من رجال التاريخ الاسلامي من العرب، والتزاوج بين الكرد والعرب اكثر من بين العرب انفسهم (شيعة وسنة) ولكن العرب يجهلون طبيعة المسالة الكوردية جهلا مخجلا " وفي مكان اخر يكتب عزيز شريف قائلا : لايجوز للعرب وليس في صالح حريته ان يكون سوط العذاب بيد الجلادين المستعمرين يلهبون به جلود الاقوام المضطهدة ويقطعونه على ظهورها .

ان اهمية ما ذكره الدكتور شاكر خصباك والمرحوم عزيز شريف تكمن في انه جاء على لسان عربيين صميميين عراقيين ، تجرأ على قول الحق قبل عدة عقود ، بينما الكتابات العربية حول القضية الكوردية تعاني الى الان من عدم الوضوح ومن عدم الاستقرار عن الهم الكوردي، هذا فضلا على ان الكثير من المثقفين العرب يتقصدون الصمت وهم مطلعون على تفاصيل القضية الكوردية، ربما لان موضوع الكورد مصنف في ذهن السياسي العربي ضمن قائمة (المحرمات) او ربما كي لا يتسببوا في تعكير مزاج السياسيين العرب . فبأسم الخوف والتخوف يحاولون مصادرة حق الشعب الكوردي في تقرير مصيره بنفسه وتكوين دولته المستقلة .

اردت من هذه المقدمة ان اضع مؤلف كتاب " القضية الكردية بين الأمس واليوم " الصادر سنة 1945، المرحوم الدكتور اديب معوض في المكان الذي يليق به بالنسبة للكورد على الاقل ، الذين لابد ان يقفوا اجلالا لذلك القلم الشجاع والجرئ الذي يقف في مقدمة الكتاب والادباء العرب الذين كتبوا بمنهجية علمية عن الشعب الكوردي، ومن اوائل من تحسس الام الكورد واوجاعهم قبل (63) عاما ، وطالب بتأسيس الدولة الكوردية المستقلة ومزق بذلك ومنذ وقت مبكر اوهام الدول المتسلطة على كوردستان . تلك الدول التي ستبقى مواقفها ومواقف الدول الداعمة لها في اضطهاد الكورد لطخة عار في جبينها .

مما لاشك فيه ان الحديث او الكتابة سلبا او ايجابا عن القضية الكوردية وحق الكورد في تقرير مصيرهم اصبح اليوم من الامور المألوفة الى حد ما، بسبب بروز القضية الكوردية وبقوة لاسيما بعد 11 اذار 1970 ، عندما انتزعت الثورة الكوردية الحكم الذاتي في كوردستان – العراق فكان العراق اول دولة تقع جزء من كوردستان ضمن حدودها تعترف بهذا الحق المتواضع. اما ان يصدر كاتب اكاديمي في اوائل سنة 1945 كتابا بعنوان " القضية الكوردية بين الامس واليوم" ينصف فيه الشعب الكوردي ويطالب بقيام الدولة الكوردية المستقلة !! فأمر في غاية الاهمية وحتى الغرابة !! خاصة اذا كان الكاتب قوميا عربيا والاغرب من هذا انه دعا الى قيام الدولة الكوردية المستقلة معتقدا اعتقادا راسخا ان ذلك سيكون  "في سبيل العروبة " .

وعلى قدر معلوماتى ان احدا من الاكاديميين العرب لم يسبق اديب في هذا الاتجاه السياسي ، كما لم يسبقه الا الكوردي بلج شيركو سنة 1930 في اختيار مثل هذا العنوان .

لقد توصل اديب معوض الى ان تأسيس الدولة الكوردية المستقلة يخدم الحركة القومية العربية ، ففي سبيل العروبة يجب على العرب ان يناصروا الكورد لتأسيس دولتهم المستقلة، ان هذا الاستنتاج الصحيح الذي توصل اليه معوض قبل غيره ومنذ اكثر من ستة عقود ، لم يتوصل اليه من الناحية الفكرية ولا السياسية الى الان الكثيرين من الكتاب والمثقفين والسياسيين العرب، وهذا دليل على بعد نظر معوض وعلى ما تميز به من فكر سياسي ثاقب، وان نظرته السياسية الثاقبة ادركت ومنذ وقت مبكر ان الصراع (العربي- الكوردي) وهضم العرب لحقوق الكورد، لن يصب الا في مصلحة دول اخرى لها اجندتها الخاصة بها ومتاخمة للدول العربية وان استمرار غمط حقوق الكورد واضطهادهم لن يكون الا مصدر ضعف للعرب، وعلى العكس فان ايجاد حل عادل للقضية الكوردية وهو تأسيس الدولة الكوردية المستقلة سيكون في مصلحة العرب ربما قبل الكورد .

لقد تقاطعت وخالفت كتابات اديب معوض في حينها معظم ان لم نقل جميع الكتاب والسياسيين العرب بصدد  موقفهم من الكورد وحقوقهم القومية، فمعوض كان صريحا ولم يحاول ابدا ان يرضي او يراعي التوجهات السياسية غير الموضوعية للقوى القومية العربية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945) ازاء الكورد .

ان الكتابات العربية حول القضية الكوردية بعد الحرب العالمية الثانية كانت لاتمت بصلة الى الواقع السياسي لانها كانت تفتقر الى  الموضوعية، وكان من الطبيعي ان تفرز اجيالا فهموا القضية الكوردية بشكل مشوه ، وليس ادل على ذلك الا تشبيهها من قبل الكثيرين منهم ب (القضية الصهيونية ) والدولة التي ينوي الكورد تأسيسها ب (اسرائيل الثانية). ولم نجد على مدى عقود من يناصر الكورد او ينبري للدفاع عنهم ، فقد جاءت توجهاتهم وكتاباتهم ارتجالية او متناغمة مع امزجة حكام الدول التي تتقاسم كوردستان .

لقد تحسس اديب معوض احاسيس الكورد القومية والامهم ، فأهم ما يمكن ان يثير الانتباه في الذي كتبه هو ايمانه واعتقاده الراسخين من ان الكورد سيحصلون على ما يريدون ، فقد طرح حكما واضحا وصاغ موقفا مباشرا بقوله : " ان الاكراد بما يملكون من وفرة العناصر التي ينضج بها لفظ امة- لايسعهم كما لايسع أي عالم سياسي واجتماعي الا ان يطالبوا باحترام هذا الكيان القومي المستقل الذي مهما شطت السياسة الدولية ومهما شذت باصحابها عنعنات الدول المجاورة للوطن الكوردي (فان الشعب الكردي) لايفتأ يصرخ في وجه التاريخ البشري جاهرا : لابد من ان يعترف القاصي والداني بما لي في حياة الامم السياسية، من حق ان لايموت حتى تلفظ العدالة ، وهي في صدر عالمنا الحر" .

لم تمر افكار وتوجهات اديب معوض عن القضية الكوردية دون اعتراض وحتى استنكار ادعياء القومية العربية ، وكتب معوض يرد على هذا النفر قائلا : انه في معالجتنا للقضية الكوردية ما كنا قط لنسف الى اتهام المخالفين لرأينا فيها ، بالهراء والسخف تنهشنا بها انياب الغلاة والمتهورين من الدخلاء المشتغلين بالشوؤن العربية بل نرانا ونود ان يرانا المخلصون كذلك ارفع من ان ننحط الى هذا الدرك من الاتهام . ووصف معوض المعارضين لافكاره من المشتغلين في الشوؤن العربية بان نظراتهم عن القضية الكوردية غريبة ان لم تكن موحاة مغرضة ووعد في كتاباته القادمة ان يقتل مثل هذه الاراء المغرضة.

ولم يسلم كتابه "القضية الكوردية" من الملاحقة والمصادرة ثم الحرق وكتب معوض بهذا الصدد يقول : انه ارسل خمسون نسخة منه فور صدوره في بيروت  الى مكتبة المتنبي في بغداد ، الا ان الحكومة العراقية امرت باتلافها حرقا، وهاجم معوض سياسة نوري السعيد السلبية تجاه الكورد ابان انتفاضة بارزان سنة 1945 التي وصفها بانها كانت اول ثورة كوردية في سبيل المصير الكوردي القومي في كوردستان العراقية بقيادة مصطفى البارزاني .

ظل المرحوم الدكتور اديب معوض طوال حياته يدافع عن الكورد وحقوقهم القومية فقد كرر افكاره وتوجهاته التي كان يؤمن بها سنة 1945 في كتاب اصدره سنة 1991 بعنوان " الامة الكوردية " وعنوانه مثير ايضا وقد قام بتاليفه بناء على طلب بعض المراجع العلمية الغربية التي تعني بشؤون الشرق الاوسط .

من هو الأستاذ الدكتور أديب معوض وما هو سر اهتمامه بالقضية الكردية ؟

اديب معوض عربي مسيحي لبناني مؤلف واستاذ جامعي ومترجم قانوني ولد في غوسطا (كسروان) في 7 شباط 1898، والده ناصيف موسى مراد معوض كان شيخ صلح بلدة غوسطا، وهو منصب رفيع كان يتولاه وجهاء البلدة ايام الحكم العثماني ، التحق بمدرسة عين ورقة العريقة (1905-1912) وكانت من اولى مدارس الشرق الاوسط التي تخرج منها العديد من مفكري النهضة العربية امثال بطرس البستاني واحمد فارس الشدياق، افتتحت سنة 1797 ولم تلبث ان ضاهت جامعات اوروبا حتى انها لقبت ب "سوربون الشرق" وام مدارس لبنان وسوريا .

ولما بلغ اديب الثالثة عشر ادخله والده دير  ( اعدادية )  الكريم

 (Kreim Convent College)  فتابع دراسته في العلوم واللغات القديمة والحية ومع انه كان لايرغب الدراسة في الدير حتى انه طلب العودة الى الحياة المدنية الا ان والده اعاده رغما عنه الى الدير .

رحل مع زملائه الى روما في خريف سنة 1920 لاكمال دراسته الاكليريكة العليا والتحق بمعهد انتشار الايمان (البروبغندا) وبرز هناك بين اقرانه وكان من اوائل اللبنانيين الذين حصلوا على شهادة الدكتوراه في علم اللاهوت والفلسفة .

عاد الى لبنان سنة 1927 ولمع نجمه في حقل الخدمة الروحية فكان خطيبا مفوها كتبت عنه ابنته صباح تقول : " ويوم يخطب بلغته العربية الصحيحة التي احبها وتضلع فيها ترى المكان يؤمه جمع غفير من المؤمنين لسماع "صوته الهادر" .

وفي بيروت التحق بمدرسة الحكمة الذائعة الصيت واخذ يدرس فيها الفلسفة واللغة العربية وادابها، والادب الايطالي وقد تخرج على يده العديد من رجال الفكر والسياسة والعلوم في لبنان ، وتضم الحكمة الان العديد من الكليات . ولكن ما ان اشتهر حتى اخذ بعض المسوؤلين انذاك بمحاربته بسبب افكاره الاصلاحية التقدمية ولما عانى جراء ذلك الكثير آثر السفر الى الخارج ، كتب اديب معوض في ذكرياته يقول " في شهر تشرين عام 1930 اتجهت الى العراق مدرسا وكان هذا بعد عودة خالي الخوري يوسف عارج والخوري منصور عواد الى لبنان ، وكانا ذهبا الى بغداد واتصلا بادراة مدرسة الكرمليين التي كان يرأسها المرحوم الاب انستاس الكرملي الشهير والتي كانت بحاجة ماسة الى مدرس يتقن بالاضافة الى الفرنسية اللغة العربية وادابها . وعلى هذا الاساس قصدت العراق وقمت في العام الاول بتدريس اللغة العربية وادابها عند الكرمليين وبتعليم ذلك في مختلف الصفوف الابتدائية والثانوية معا."

كان اديب معوض يعشق الحرية من اعماقه ولهذا لم ترق له الاكليريكية

" الحياة الدينية" وقيودها ، فقد كتب بهذا الصدد يقول : بيد اني وانا ابن الحرية في اعماقي النفسية ما عتمت ان تعلمت من تلقاء نفسي وفقا لشعاري المعروف :  هي الحرية المثلى شعارى                        فلا وجد اللألى انتهكوا شعاري

 

وفي عزلته الاليمة في العراق ارسل بثوبه الى رؤسائه في لبنان لما  لم يحصل عليه من السلطات الدينية على الاذن بالعودة الى وطنه ، وكان ذلك في صيف 1934 ومنذ ذلك الحين اختار لنفسه اسم (اديب) الذي كان يستخدمه كاسم مستعار في الصحف المحلية في بغداد بدل اسمه في المعمودية (انطوان).

تعرف اديب معوض وبواسطة صديقه الاديب يوسف مسكوني الى عائلة البروتى(البروطي) في مدينة الموصل ، وهي من اولى العائلات الكلدانية المحافظة التي اعتنقت المذهب البروتستانتي، ونظرا لما كان يتحلى به من ثقافة فقد لاقى اعجاب اسرة البروتي وقبلوا به زوجا لابنتهم زكية سليم فتزوجها في 28 ايلول 1938 وخلف ثمان بنات : صباح ، ليلى، سلام ، كوكب، امل ، نهى، هدى ، غادة .

انغمس اديب معوض في العراق في مجال التعليم والتاليف وراح يطالب بوثبة اجتماعية عملا وفكرا ويناهض الرجعية فأسس جمعيات عديدة مع كبار المثقفين والسياسيين التقدميين في بغداد منها " نادي المثنى بن حارثة الشيباني" ومن اصدقائه المقربين مصطفى جواد احد كبار الادباء واللغويين العراقيين والسياسي فاضل الجمالي الذي اصبح رئيسا للوزراء سنة 1953-1954 واحمد مختار بابان رئيس وزراء العراق عند قيام ثورة 14 تموز 1958 وكان الاخيرين يزورانه دائما في بيروت .

وخلال ممارسته للتعليم في العراق لاقى اديب معوض الكثير من المصاعب والانتقادات من بعض المتعصبين دينيا ومنهم مفتشي (مشرف) التاريخ في وزارة المعارف (التربية والتعليم حاليا) الذي كان يتساءل في تقريره السنوي قائلا :" وكيف يجوز لمدرس مسيحي ان يعلم تاريخ العرب والاسلام " .

وقف اديب معوض خلال سنة 1940-1941 موقفا بارزا في الصحافة البغدادية ضد السياسة النازية التي كانت تتغلغل في اوساط بعض الفئات السياسية المتطرفة بقيادة رشيد عالي الكيلاني الذي قاد حركة مايس 1941الانقلابية ، حتى انه الف كتابا بعنوان " النظام الجديد بين الديمقراطية والدكتاتورية" ومضمونه في الاساس كان ضد كتاب كفاحي لهتلر زعيم النازية وعلى اثر صدور هذا الكتاب القى عليه القبض وكان نصيبه قضاء ثلاثون يوما في سجون بغداد ، ولولا تدخل صديق اسرته فوزي القاوقجي وكان من (المجاهدين) العرب المقربين للكيلاني لكان مصيره التصفية على يد مؤيدي الكيلاني .

ولم ينسى اديب معوض وهو في العراق بلده لبنان فقد حمل من هناك على سلطات الانتداب الفرنسي في لبنان ونادى باستقلال وطنه، وقد اهتمت الصحافة البغدادية في نشر مقالاته تحت عنوان " نريد الاستقلال ونرفض الانتداب" واثارت هذه سخط وغضب الاكليركية المارونية في لبنان التي كانت تماهي سياسة الانتداب الفرنسي وكانت على علم انه كان يكتب تحت اسم مستعار في العراق وارسلت اليه من ينقل سخطها .

وما ان شارفت الحرب العالمية الثانية على الانتهاء حتى عاد اديب معوض الى بيروت مع زوجته وابنتهما البكر ولم تكن عملية انخراطه في الحياة المدنية بالامر اليسير فقد اوصدت في وجهه ابواب الرزق في شتى الميادين وبالاخص في وزارات الدولة و دوائرها ، اذ قام بعض رجال الدين في البطريركية المارونية بمحاربته في ميدان التعليم الذي كان ميدان عمله الاساس لانه كان قد ترك العقيدة المارونية واعتنق المذهب الانجيلي لاعتقاده انه اقرب الى تعاليم السيد المسيح . فضلا عن مهاجمته لسلطات الانتداب الفرنسي كما اشرنا .

اضطر اديب معوض وفي سبيل كسب العيش وتأمين القوت لاسرته ، العمل في التجارة في سوق جملة بيروت دون أي المام بالتجارة ولانه كان صادقا في تعامله فقد احرج التجار حتى ان رئيس التجار الشيخ بطرس الخوري ارسل في طلبه وخاطبه قائلا " يا دكتور الله يخليك خذ هذا المبلغ تعويضا لك واترك لغيرك هذه الساحة لانك خربت بيتنا ...بحياتك لن تصبح تاجرا" .

تقول ابنته صباح : ان والدها بعد ذلك عمل مدرسا في ثانوية مرجعيون التابعة للكنيسة الانجيلية فاخذنا نتردد على الكنيسة الانجيلية وفي الوقت نفسه لم ينقطع والدي عن ارتياد الكنيسة المارونية مشجعا ايانا كذلك ، ولكي ينزع عنا صبغة التعصب الديني الاعمى ونبقى منفتحين على كل فكر خصب ورسالة دينية وانسانية اصر على تعليمي ايضا القران الكريم على يد الشيخ احمد العجوز.

كان اديب معوض شغوفا بالكتب الفلسفية وقد تاثر كثيرا بالفيلسوف الفرنسي فولتير وكانت الكتب المفضلة لديه كتاب " هكذا تكلم زرادشت" للفيلسوف الالماني نيتشه وكتاب "كليلة ودمنة" لابن المقفع وكتاب " نهج البلاغة " للامام علي بن ابي طالب .

استمرت علاقات اديب معوض بالعراق فقد عاد اليها سنة 1957 حيث تبوأ مركز كبير المذيعين في اذاعة بغداد ودرس في ثانويات بغداد وكركوك والبصرة وكان يحاضر في مادة التاريخ في جامعة بغداد وعاد الى لبنان قبل ثورة 14 تموز 1958.

اتخذ اديب معوض له مكتبا " مكتب اديب للترجمة والتحرير " في شارع الكبوشية في بناية قصر العدل القديم فاصبحت مكتبته ركنا للمترجمين والمحلفين ومرجعا للغويين وما عصى على الاخرين في حقل التاليف و الترجمة الدقيقة ولدقته في الترجمة واتقانه ثمان لغات اتقانا جيدا لقب ب "شيخ المترجمين" . ولم يكن مكتبه دار للترجمة والتاليف فحسب بل كان ايضا ملتقى كبار الشخصيات والكثير من الادباء والشعراء والمحامين واهل الفن ، ولم يكتف بعمله في المكتب بل ترأس مدة طويلة مصلحة الهجرة والتوطن في حزب الكتائب اللبناني ، وبقى في مكتبه حتى بدء الحرب الاهلية اللبنانية سنة 1975 حيث احتل مكتبه عدد من المسلحين الذين عبثوا خرابا به فتبعثرت معظم المخطوطات والمذكرات بنيران الحرق.

تدهورت صحة الدكتور اديب معوض لاسيما بعد وفاة زوجته وبعد ست سنوات توفي في 15 شباط 1995.

كتب عنه الدكتور الاب سمعان بطيش يقول : كان اديب معوض من حملة الاقلام الذين يشرفون القلم جمالا ونوعا والقافية سبكا وتركيبا، ومشهود له بانتقاء الكلمات ...والقوافي..والتعابير..والاسماء..والاصدقاء. قوي وعنيد في وجه المتجبرين والمتطاولين والمفرطين. يتحلى بالذكاء ونظافة الكف ويمتاز بالاتزان في التفكير وبالجرأة والصراحة وصواب الرأي دفاعا عن الحق ،وعن موقف يؤمن به لقد شارف على المئة من العمر ولم تضعف عزيمته او بصيرته وما ذكر اسمه في who is who in Lebanon  موسوعة الاعلام اللبنانيين المعاصرين اصدار 1995-1996 سوى تاكيد لما كان يتحلى به من ثقافة واسعة وعلم موفور واطلاع عميق .

اديب معوض و القضية الكوردية:

ان مثقفا واكاديميا بمواصفات المرحوم اديب معوض لايمكن ان يكون الا منصفا في تناول القضية الكوردية قضية شعب مظلوم تعرض عبر تاريخه لابشع انواع القمع والاضطهاد ، فقد عرف المرحوم بانه كان عنيدا متشبثا بالحق بعيدا عن التملق يندفع كليا فيما يكتبه مدافعا في ثورة عارمة عما يؤمن به .

لم تكن الفلسفة هي شاغفه الوحيد بل السفر بحثا عن عوالم التاريخ الذي كان اساس ثقافته الواسعة ، من هنا جاءت التفاتته الى تاريخ الكورد وحضارتهم فوقف مدافعا عنهم ويكفي ان نقول انه كان من اوائل الداعين الى تاسيس الدولة الكوردية الموحدة في وقت كان مجرد الكتابة عن الكورد وقضيتهم القومية محظورا او خيانة (للوطن) وتجلب المشاكل لمن يكتب عنهم .

دخل الدكتور اديب معوض منذ بداية حياته الاكاديمية ميدان الصراع الفكري والسياسي من زاوية حبه وشغفه في الدفاع عن الحريات العامة وعن مظلومية الشعوب وقضاياها المحقة، فقد نادى باستقلال العراق ولبنان من الانتداب البريطاني والفرنسي فضلا عن تحسسه قضايا القوميات المضطهدة وتعاطفه مع نضالها ، فقد دافع عن المظالم الواقعة على الشعب الكوردي في العراق والتي لمسها شخصيا حيث شاءت الظروف ان يتعرف على اوضاعهم المزرية في جميع مناحي الحياة من جهل وفقر مدقع نتيجة سياسات ضيقة قائمة على التهميش والغبن. لقد شعر معوض بان الكورد امة مشتتة ولا تستحق التمزيق فدعا بايمان الى وجوب احترام حقوقهم، ولغرض نشر الوعي واستئناف الثورة الكوردية بعد ركودها اثر قمع انتفاضة بارزان في تشرين الاول 1945 وبسبب افتقار المكتبة العربية او بالاحرى خلوها في ذلك الحين من الابحاث والكتب عن الكورد وحبا بتوثيق المعلومات ونشرها قام اديب معوض بابحاث مسهبة عن تاريخ الشعب الكوردي ودافع عنه في مؤلفاته .

وفي لبنان وبعد عودته من العراق نهائيا قبيل قيام ثورة 14 تموز 1958 تابع مسيرة الدفاع عن الشعب الكوردي غير آبه بما يجره عليه من اذى ، فقد واصل كتاباته عن الكورد وتعمق في دراسة اوضاعهم في سوريا ولبنان وشارك في العديد من المؤتمرات الدولية الخاصة بالشوؤن الكردية في اوربا ومنها مؤتمر الطلبة الكورد في استوكهولم سنة 1971 .

وفي لبنان ايضا ساعد الجالية الكوردية على تنظيم شؤونها لتحصل على حقوقها السياسية وقام بمساعدة شخصيات كوردية مثل السيد جميل محو (توفي سنة 1982) على انشاء حزب سياسي كوردي باسم الحزب الديمقراطي الكوردي بوضع مسودة منهاجه وتحديد نشاطاته بحسب ما تسمح به الظروف والقوانين اللبنانية هذا فضلا عن انه اخذ يكتب الخطابات والمقالات وينشرها باسم مستعار دعما للسيد محو الذي رشح نفسه في الانتخابات النيابية اللبنانية عن المقعد السني في بيروت سنة 1969 .

للمرحوم اديب معوض (12) كتابا ثلاثة منها عن الكورد وهي :

1-    الاكراد في سوريا ولبنان (بيروت 1944).

2-    في سبيل العروبة ، القضية الكردية بين الامس واليوم (بيروت 1945).

3-    الامة الكردية (بيروت 1991).

كما ترك العديد من الكتابات غير المنشورة عن الكورد لكنها فقدت بسبب حرق مكتبه في شارع الكبوشيه في بيروت ، وحرق مكتب الحزب الديمقراطي الكوردي اللبناني سنة 1983 اثر الحرب الاهلية، ومنذ اندلاع تلك الحرب انكب المرحوم على تاليف الاشعار وعلى تاليف كتابه "غوسطا ضيعتي ، رحلة علماني" وتوفي قبل ان يبصره وتحقيقا لامنيته طبع الكتاب وصدر في بيروت سنة 2004 من قبل ابنتيه كوكب وهدى .

وتتبع المرحوم القضية الكوردية وتطوراتها الى اواخر سني حياته، فقد كتب عن انتفاضة الكورد في كوردستان العراق في اذار 1991 قائلا : والان بعد مضي اكثر من اربعة اشهر على اندلاع الثورة الكردية في العراق وما رافق تلك الانتفاضة من دمار وخراب وتشريد لايسعنا الا ان نتساءل مجددا عن الاسباب الخفية التي دفعت بالديمقراطيات الغربية الى عدم مد يد  المساعدة للشعب الكوردي في سبيل تقرير مصيره. ان هذه الديمقراطيات نفسها جمعت ترسانة كبيرة من اسلحة الدمار للدفاع عن قضية حقوق الانسان في الكويت، وقفت عاجزة عن ايما عمل من شأنه اجبار الحكومات المعنية على منح الاكراد استقلالهم الذاتي، حيث لا تفتأ الشعوب الكردية رازحة تحت عبء الاحكام الطاغية في كل من تركيا وايران الرافضتين لمنح الاكراد الاستقلال الذاتي على الاقل بخلاف ما حصل مع الشعب الكوردي في العراق.

وفي اخر كتب له (الامة الكردية) دعا العرب والدول الديمقراطية الغربية الى انصاف الكورد وتقدير نضالهم القومي ودعمهم لتأسيس الدولة الكردية لان المنطقة – حسب رأيه – سوف لن تستقر سياسيا مالم يحصل الكورد على ما يريدون واذا لم يعترف القاصي والداني بما لهم في حياة الامم السياسية .

واخيرا لابد ان نقف نحن الكورد اجلالا لتلك الاقلام الحرة الجريئة التي مزقت اوهام الحكام العرب والترك والفرس وصمتهم ازاء حقوق الشعب الكوردي القومية ، اقلام : اسماعيل بيشكجي، اديب معوض، يوسف ملك، رجائي فايد, شاكر خصباك، صديق الدملوجي، عزيز شريف، احمد بن بله (رئيس جمهورية الجزائر الاسبق) وسواهم  من اصحاب الاقلام والمواقف الحرة النبيلة الذين ستبقى اسماؤهم بارزة في عالم الثقافة والفكر الانساني.

 

بقلم /ا.د. عبدالفتاح علي البوتاني

مدير مركز الدراسات الكوردية وحفظ الوثائق بجامعة دهوك

اعده بتصرف / رمزي عقراوي / شاعر وصحفي

 e-mail-remziakrawi@yahoo.com

 
Top