GuidePedia

نبضات الحياة لدى الشاعر علي محمود طه (دراسة بقلم / رمزي عقراوي)

 

الشاعر الرومنطيقي علي محمود طه (1902-1949) ولد في المنصورة ، درس الهندسة وعمل كمهندس للحكومة لمدة طويلة بعدها، ثم اسندت اليه وظيفة في الامانة العامة لمجلس الامة المصري، سافر مرارا الى اوروبا في الصيف، اذ شغف كثيرا بمناظرها الطبيعية المتنوعة. في سنة 1924 اصدر ديوانه – الملاح التائه- فاذاع صيته كاحد الرومنطيقيين في الشعر العربي ثم اصدر خمسة دواوين شعرية اخرى كان اخرها في سنة 1947 و تأثر كثيراباثار الرومنطيقيين الغربيين خصوصا بفضل تعاونه مع الشاعر احمد زكي ابو شادي (1892-1955) وجماعة (ابولو).

(( ومرحلة الرومنطيقية تبدو في اجلى مظاهرها في الفترة ما بين الحربين –العالميتين . ومن سمات الرومنطيقية ان التعارض والتوتر بين الشكل والمضمون قد اختفى كلية او كاد، وان المثل الاعلى للِشعر فيها هو الغنائية وسيادة العواطف والاحاسيس الذاتية، وهي احاسيس قريبة الشبه مما تجد في الشعر الرومنطيقي الاوربي، وتشمل الحزن والاشواق الغامضة والحنين الى براءة الطفولة والى المثل العليا البعيدة المنال وانفعالات الجزع الميتافيزيقي والحيرة والاسرار وشتى الوان المجهول ، سواء في ذات الشاعر او في مظاهر الطبيعة الغامضة خارجه. هذه المواقف والاتجاهات العاطفية الجديدة يرجع بعضها الى تقليد مباشر او غير مباشر للشعر الرومنطيقي الاوربي ، كما يرجع البعض الاخر الى الموقف الثقافي والسياسي العام الذي وجد العرب فيه انفسهم في ذلك الوقت ولاسيما في تلك البلاد التي كانت تفقد صفتها التقليدية بسرعة فائقة. ولاشك انه يتعذر التمييز في هذا المضمار بين ماهو وليد التقليد والتاثر الادبي وبين ما هو ثمرة الموقف الحضاري العام . ومهما يكن من شئ فان الظاهرة التي تسترعي الانتباه والتي لاشك لها دلالاتها الحضارية هي ان هذا اللون الجديد من الشعر انتشر بسرعة مذهلة في مناطق شتى من العالم العربي، فالحركة الرومنطيقية في الشعر العربي الحديث كان لها اتباع كثيرون بحيث يصعب على من يتصدى لعملية اختيار من هم يمثلونها اصدق التمثيل ان يتجنب التعسف . الا ان أي عرض لهذه مهما كان مقتضيا، لابد وان يشمل الدكتور ابو شادي مؤسس مجلة (ابولو) في القاهرة، تلك المجلة التي اسدت خدمة عظمى لقضية الشعر العربي الحديث والدكتور ناجي صديق ابو شادي وزميله، وعلي محمود طه بين شعراء مصر، وابو شبكة في لبنان وابو ريشة في سوريا والشابي في تونس والتيجاني في السودان ، كما يشمل نعيمة وابو ماضي وعريضة وكثيرون غيرهم في المهجر الامريكي . اما العراق فقد جاء الشعر الرومنطيقي فيه متاخرا ولم يقدر به ان يعمر طويلا اذ يمكن القول بانه ظهر من خلال الحلقة الرابعة من القرن في نتاج شعراء مثل نازك الملائكة والسياب (في مرحلة نتاجه الاولى) غير انه لم تشرف الحلقة الخامسة الا وقد اتضحت علامات الضيق بحدوده .

ونستطيع الجزم بان جيل الشعراء الرومانطيقيين العرب الذين بلغوا مرحلة النضج في فترة ما بين الحربين قد وقعوا جميعا تحت تاثير شعراء المهجر الامريكي ولاسيما شعراء المهجر الشمالي الذين ساهموا الى حد بعيد في تحرير الشعر العربي الحديث. فقد ساعد هؤلاء الشعراء على ايجاد مفهوم جديد للشعر العربي ، مفهوم اضاف بعدا روحيا الى ابعاده. كما نبذوا اللهجة الخطابية التقليدية واثروا ما سماه المرحوم الدكتور مندور بالشعر المهموس، فركزوا شعرهم على تجارب الانسان الذاتية وعلى موقفه ازاء الطبيعة وازاء القضايا الانسانية الاساسية ومشكلات الوجود . كذلك ادخلوا في الشعر العربي موضوعات وصورا من الكتاب المقدس فاثروا بذلك الشعر العربي ووسعوا من افقه. هذا بالاضافة الى اهتمامهم بالبحور القصيرة وبالتوشيح وتعدد القوافي والتي تحررهم من الشكل العام . حقا ان اراء بعضهم المتطرفة لم تلق كبير صدى في العالم العربي، كما ان محاولة بعضهم نبذ التراث العربي القديم كانت موضع هجوم الكثيرين واخذ عليهم ان لغتهم لم تكن سليمة بالقدر الكافي الا انه ما من باحث منصف يستطيع ان ينكر انهم لعبوا دورا خطيرا في تكوين الاحساس الادبي في العالم العربي الحديث – كما يؤكد ذلك الدكتور مصطفى بدوي في مقدمته الرائعة لكتابه القيم الموسوم ب (مختارات من الشعر العربي الحديث) .

1) علي محمود طه ، هذا الشاعر الرومنطيقي الرقيق الذي يهدي ديوانه (الملاح التائه) الى اولئك الذين يستهويهم الحنين الى المجهول ! والى التائهين في بحر الحياة ! والى رواد الشاطئ المهجور ! يمكننا ان نستشف بعضا من خبايا شخصيته الاثيرة ومكنونات نفسيته الغضة اليانعة ورهافة شعوره الزاخر بالعواطف النبيلة ، من اول قصيدة له ضمن ديوانه المذكور بعنوان (ميلاد شاعر) ...

 

حينما شارفت به افق الارض                 زها الكون بالوليد الصبي

وسبى الكائنات نور محيا                             ضاحك البشر عن فؤاد رضي

صور الحسن حوّم حول مهد                  صفّ بالورد والعمار الزكي

من تراه؟ فرن صوت هتوف                  من وراء الحياة شاجي الدوي

 

ان ما تشهدون ميلاد شاعر!

2) فاذا تمرد المحبون على حكم الهوى وضاق كيوبيد بصراخهم وبكائهم فتح لهم باب ديره فخلصوا من ناجيه. وانطلقوا هاربين من اسره ينشدون السلو و النسيان في حياة اصبحت تنكرهم وكأن لم يتصلوا بها، وهاموا في عالم كأنما يجهلهم ويجهلونه ، هناك يرجع الهارب نادما ماخوذا بسحر تلك الايام التي كانت تشرق عليه من خلال ديره القديم .

فمن قصيدته (رجوع الهارب) نقرأ...

 

وصحوت من خبل وبي مما ارى            اطراق مكتئب وصمت حزين

فافتح لي الباب الذي اغلقته                    دونى، وهات القيد غير ضنين

دعني ارو القلب من خمر الرضى           وانم على فجر الحنان عيوني

واعد الى اسر الصبابة هاربا                 قد آب من سفر الليالي الجون

عاف الحياة على نواك طليقة                 واتاك ينشدها بعين سجين !

 

3) قبلة من ثغرها الباسم تمحو كل ما بنا ، وتوارينا عن الناس وعن دنيا العذاب، وتنسي قلوبنا ما جرعت من سم زعاف ، قبلة تمزج انفاسها بقلوبنا المذابة ...فلنقرأ معا قصيدة (قبلة ...

قبلة من ثغرك الباسم دنيا وحياة

تلتقي الروحان فيها والمنى والصبوات

لغة وحدت الالسن فيها واللغات

تبعها القلب ومجراها الشفاه النفرات

 

4) واذ ما الشاعر يزور القرى والارياف فان الماء يداعب ظل الشجر وتغازل السحب ضوء القمر، وتردد الطيور انفاسها خوافق بين الندى والزهر ومطوقة بالهوى تنوح وتشكو القدر وتناجي الهديل وعلى النهر يمر ثغر النسيم يقبل كل شراع عبر ، حيث الشاعر يقول في قصيدته (اغنية ريفية) .

 

واطلعت الارض من ليلها                     مفاتن مختلفات الصور

هنالك صفصافة في الدجى                    كأن الظلام بها ما شعر

امر بعيني خلال السماء                واطرق مستغرقا في الفكر

اطالع وجهك تحت النخيل                     واسمع صوتك عند النهر

وتعجب من حيرتي الكائنات           وتشفق مني نجوم السحر

فامضي لاسترجع مستشرفا             لقاءك في الموعد المنتظر !

 

5) ويعتبر شاعرنا ان الحسن الفتان هو (الوصي الخالد) الذي لولاه ما جاشت الدجى بهمومنا ولا افتر عن بسماتها تغر الصباح الضحوك ، وهنا يتحدث الشاعر عن الجمال الرائع البديع بصور شعرية  خصبة

فوا اسفا يا حسن للحظة التي                  تطيش لها الاحلام من وثباتها

ووا اسفا يا حسن للفرقة التي                  يعز على الاوهام جمع شتاتها

وما هي الا الصمت والبرد والدجى         ودنيا يشيع الموت في جنباتها

ولكن ردت النفس التي كنت حبها            وناغت هذا السحر في كلماتها

مضت غير شعر خلدت فيه وحيها           اليك فخذ يا حسن وحي حياتها!

 

6) في قصيدة – النشيد – وعندما يظل الوادي مساء كان ثمة طيف في الدجى يجلس قرب شاعرنا وفي يديه زهرة تقطر ماء عرفت عيني الشاعر بها ادمع قلبه الولهان المضطرم بالهون والشباب فحدثه الشاعر من انت ؟ فلباه مجيبا نحن يا صاح غريبان هنا ، قد نزلنا السهل والليل الرهيب حيث ترعاني وانا ارعاك !

 

قلت يا طيف اثرت النفس شكا                كيف اقبلت؟ وقل من دعاكا ؟

قال اشفقت من الليل عليكا                     فتتبعت الى الوادي خطاكا

ودنا مني وغناني النشيدا                      فعرفت اللحن والصوت الوديعا

هوحي هام في الليل شريدا                           مثلما همت لتلقاك جميعا

 

7) وفي قصيدة (الملاح التائه) يتقمص شاعرنا ثوب الملاح الذي يطوي الشراع ويجدف بالسفينة وجهة الشاطئ  ، فغدا قذفا واندفاعا تاخذنا موجة الايام ...

فتمهل تسعد الروح بما                  وهمت او تطرب النفس سماعا

ودع الليلة تمضي انها                  لم تكن اول من ولى وضاعا

سوف يبدو الفجر في اثارها            ثم يمضي ودواليك تباعا

هذه الارض انتشت مما بها            فقضت تحلم بالخلد خداعا

قد طواها الليل حتى اوشكت           من عميق الصمت فيه ان تراعا

 

8) والان لندلف (غرفة الشاعر) حيث نرى فيها ان شاعرنا كئيب جدا وقد مضى الليل وما زال غارقا في شجونه، مسلما راسه الحزين الى الفكر وقد ذبلت جفونه للسهد، ويده تمسك اليراع واخرى يمرها فوق جبينه في ارتعاش وفمه ناضب به حر انفاسه التي تطغى على انينه الضعيف...

 

فقم الان من مكانك واغنم                     في الكرى غطة الخلي الطروب

والتمس في الفراش دفئا ينسيك        نهار الاسى وليل الخطوب

لست تجزئ منن الحياة بما             حملت فيها من الضنى والشحوب

انها للمجون والختل والزيف           وليست للشاعر الموهوب!

 

9) وحينما يدخل الشاعر في (مخدع مغنية) الذي يشيع الخيال في جوه المثير ويرف الحسن والسحر والهوى فيه والجمال ...

 

ونسيم معطر خفقت في                 قلوب ، ورفرفت ارواح

ومنى كلهن اجنحة تهفو                ودنيا بها يدف جناح

ومن الزهر حولها حلقات                      طاب منها الشذا ورق النفاح

حملت كل باقة دمع مفتون              كما تحمل الندى الارواح

وهي في ميعة الصبا يزدهيها          ضحك لاتمله وضراح !

 

10)     وهنا تبدد قيثارته الشجية وتنسى الحان غرامه حيث تمر الليالي وقيثارته كانت مؤنسته وعزاء نفسه المؤلمة وفي قصيدة (قيثارتي) نقرأ ما يلي ...

 

عل الذي غنيت عرش جماله                  وطفقت ارقب افقه المتسامي

تشجيه الحاني فيعدني به                       طيف يضن علي بالالمام

مالي اراك جمدت بين اناملي                 وعصيت اناتي ودمعي الهامي

خرساء لا تتلو النشيد ولا تعي                سر الغناء ولا تعيد كلامي

يغري الكآبة بي ويكسف خاطري            اني اراك حبيبة الانغام

 

11)      هذه ذكريات قديمة يصور الشاعر فزعه من طروقها ذات ليلة. فيحاول انكارها وتجاهل امرها وهي لاتصدق دعواه فتصر على موقفها منه، ويمضي الشاعر في محاولته ليردها عنه في مناجاة محزنة وضراعة مؤثرة وذلك في – قصيدته (ايتها الاشباح) ...

 

لم اقبلت في الظلام الي ؟                      ولماذا طرقت بابي ليلا

لات حين المزار ايتها الاشباح               فامضي فيما عرفتك قبلا؟

اتركيني في وحشتي وودعيني                في مكان بوحدتي مستقلا

لست من تقصدين في ذلك الوادي            فقدرا ان لم اقل لك اهلا !

 

لا تطيلي الوقوف ايتها الاشباح فامضي فما رايتك قبلا او لم تسمعي؟ جهلتك من انت؟ فعودي فما كذبتك قولا !!

 

12)     اما (قلب الشاعر) فهو كالنجم في خفوقه وفي وميضه حيران يتبع حيرة الارض ومصارع الايام والشعوب، مترنحا كالعاشق الثمل ، نشوانا من الالم ومن الامل ، مستهزئا بالكون والزمن ...

 

تلك السماء على جوانبه                 بحر الحياة الغائر الزبّد

كم راح يلتمس القرار به                هيمان بين شواطئ الابد

تهفو على الامواج صورته             وشعاعه اللماح في الغور

نفذت الى الاعماق نظرته                     فاذا الحياة جلية السر

 

13)     و (على الصخرة البيضاء) يصف الشاعر مشهدا من مشاهد الصراع بين الطبيعة والانسان وهي ماساة وقعت في غروب شتاء على الشاطئ الممتد بين بحيرة المنزلة وبحر الروم ...

 

لقد غرقوا في اثر اكواخهم به                         وما لمسوا من حكمه عفو قادر

وسجاهم باليم زاخر موجه                    وانزلهم منه فسيح المقابر

اصخ ايها الوادي! اما منك صرخة          يدوي صداها في عميق السرائر؟!

اتعلم سر الليل؟ اما انت جاهل ؟             بل انه يا بحر ليل المقادر !!

 

14)       في قصيدة (الله والشاعر) يبحث الشاعر مجدا ومخلصا عن ايات الله سبحانه وتعالى في زوايا الكون وفي خبايا الارض الواسعة وفي مخلوقاته العجيبة والغريبة، أي انه يريد الوصول الى اسرار الحياة الدفينة التي لم تكن باستطاعته اليوم بحقائقها ، فيبدا الشاعر بتهدئة فزع الارض من سؤال دون جواب! طالما حير العلماء العباقرة وغيرهم منذ الازل ولحد الان –دون جدوى- محاولا ان يستشف ما وراء السماء ...؟!

 

يا ارض ناديت فلم تسمعي                    انكرت صوتي وهو من قلبك

لاتفرضي مني ولا تفزعي                    من شاعر شاك الى ربك!

ايتها المحزونة الباكية                          لا تياسي من رحمة المنقذ

لعل من الامك الطاغية                         اذا دعوت الله من منقذ!

فابتهلي لله ، واستغفري                        وكفري عنك بنار الالم

وقدمي التوبة، واستمطري                    بين يديه عبرات الندم !

 

15)       وعلى (صخرة الملتقى) التي تجاورها الصحراء تستشرف البحر وبالقرب من الفلوات يقر المحيط...حيث ياتيها الشاعربعد الفراق الطويل يشكو اليها من الحياة المضجرة المملة كالشادي الذي نسل هبوب العواصف ريش جناحيه وكالشريد الذي ضل السبيل في صحاري العيش الثقيل، تلك الصخرة التي لا يسميها الشاعر بصخرة الملتقى بل يسميها صخرة الماساة!

 

في ثراها الغبي وسدت احلامي                      وماضي الهني من اوقاتي

انا قيثارة جفتها الليالي                                 في زوايا النسيان والفضلات

وارثت اوتارها فهي تبكي                             من شجاها صبية النغمات

انا طيف الماضي على صخرة الاباد                استشرف الزمان الاتي

وورائي الصحراء وادي المنايا                      وامامي المحيط لج الحياة

بين عبريهما ذوت غر ايامي                         وصال الوضئ من ليلاتي

 

16)       وتضج الانجم الوضيئات في افاق ( عاصفة في جمجمة) وثمة ليل يشتكي الابد المستديم فمضت تصرخ من اعمق اعماقها – ابهذا الليل نبه الذين رقدوا وناموا طويلا :...و ...

 

لو تمشت بمناياها الرجوم                     لاستحال الخلق والكون سدى

ورايت الارض حيرى والنجوم              تزرع الجو على غير هدى

 

17)       وعندما يشاهد الشاعر رواية سينمائية تصور مشاهد (القطب) الشمالي وكانت الانباء تتوالى عن رحلات المستكشفين له في ربيع 1927 فيصف لنا الليل هناك واديم الثلج الطافي وبحار جليدية شاسعة بغير امواج او ضفاف وجبال شاهقة من الثلوج المتراكمة ذات السفوح الرائعة وصحاري جليدية لا تنتهي اطرافها كلها سكون وصمت مترامي الحدود ...

 

لا ترى للنهار والليل في واديه                       يوما من دورة واختلاف

او تحس الارواح قصف الرياح الهوج              فيه او هدرة الرجاف

لا اصطفاق الغصون ولا هذر الطير                ولا انت النمير الصافي

عريت ارضه من العشب الاخضر                  والدوح سابغ الالياف

 

18)       هنالك بين الامواج الزرقاء يمتد برزخ من الرمال بين شاطئ البحر الابيض وبحيرة المنزلة حيث تشرف اكواخ (اشتوم الجميل) من بوغازها الصامت على اثار قلعة متهدمة جلس الشاعر عليها ايام صباه يمرح في امسية هانئة بين رمال وصخور وامواج، حيث زار الشاعر برفقة بعض اصدقائه المخلصين والاوفياء ذات مساء قريب في جو عاصف فهاجت بهم ما هاجت من احلام والام اطردت في سياق (الامسية الحزينة) تحية الروح الى امسيتها المحزونة ...و ..

 

يا من قتلت شبابي في غضارته                      ورحت تسخر من دمعي واناتي

حرمت ايامي الاولى مفارحها                        فما نعمت باوطاري ولذاتي

فدع فؤادي محزونا يرف على                       ماضي ليالي وانعم انت بالاتي

دعني على صخرة الماضي لعل بها                 من الصبابة والتمنان منجاتي!

 

19)       و (الفن الجميل) ضارب في الخيال وهو فجر النبوغ يصدح فيه كل من اطلق وجدانه الهوى والمراح، وسماء للشاعر الفذ منها يستقي شعره ووحيه وبيانه...المستفيض ..

 

وهو قيثارة الخلود عليها                       يعزف الطير في الربى الحانه

وانا الشاعر الذي افتن بالحسن               واذكت يد الحياة افتنانه

معهدي هذه المروج واستاذي                 ربيع الطبيعة الفينانه

وازاهير حانيات على النهر                  يقبلن في الضحى شطانه

20)       والموجة المسحورة من البحور الخفية التي تغمر القلوب بالخيال الخصب الغامر تثور وتصخب من (الشاطي المهجور) الذي ايقظ في نفس الشاعرفتون ذكريات من الشباب اليانع الغرير ...و ..

 

انها ذكريات امسية مرت                      وايام غبطة وسرور

وبريء ابتسامة في فم الايام                  كانت عزاء قلب كسير

قد طواها النسيان الا شعاعا                  غمر الروح في بقية نور

وهي ماساة حبه صورتها                     ريشة الليل مبدع التصوير

مثلتها لعينه الان شطآن                        وموج يئن تحت الصخور !

 

21)       ان شاعرنا (عاشق الزهر) الذي يتمنى من كل قلبه لو كان كالفراش له اجنحة يهفو بها في الفضاء الواسع هيمانا حرا طليقا يدف للنور عند ثورته ، ويرجع بسناه نشوانا ممتلئا نشاطا وحيوية، وحبا للحياة وعشقا لاسرارها العميقة ..

 

فليحمي الحسن زهر جنته                     وليقضي العمر عنه حرمانا

ما كنت لولاه طائرا غردا                     ولو جهلت الغناء ما كانا !

 

22)       وفي (انتظار) شاعرنا لحبيبته مولها متوجا مضطربا حيث يطول ..انتظاره ولم تزل عيناه ترقبان كل الاطياف والاشباح العابرة، ويطير سمعه صوب كل رنة او خفقة في الافق القريب، وروحه ترف فوق انفاس الروابي فلعلها تكون نفس الحبيبة الزائرة ...

 

حتى اذا حان الرحيل هتفت بي                      فوقفت واستبقت خطاك نواظري

وصرخت بالليل المودع باكيا                         ويداك تمسك بي وانت مغادري

ياليتنا لم نصح منك وليتها                             ما اعجلتك رضى الزمان الدائر

وكانني ما كنت الفك في الصبا                       يوما ولا كنت الحياة مشاطري

ونسيت انت وما نسيت وانني                 لاعيش بالذكريات... لعلك ذاكري؟!

 

 

 

 

23)       الليل الداجي والوحشة والكآبة والقلق والاحزان ، ظلمات من فوق ظلمات ، وعالم من ضباب، وكواكب غرقوا، وانين الجزوع الهياب، والميلاد والموت ، ومثوى الهموم وعبء الحياة الثقيلة، كل هذه المعاني تضطرم في جوانح شاعرنا حيث يصبها جميعا (الى البحر) فيقول ...

انا وحدي هيمان في لجك الطامي                    غريق في حيرتي وارتيابي

ارمق الشاطئ البعيد بعين                             عكفت في الدجى على التسكاب

فدواءه في مسمعي من دواه                           من سقامي ورحمة من عذابي

فانا فيك اطرح الان الامي                            وعبء الحياة والاحقاب!

 

24)       هذا وقد تاثر شاعرنا بالشاعر الفرنسي الراحل الفونس لامارتين، حيث يترجم له احدى قصائده الشعرية الخالدة المعنونة ب( البحيرة) وتكاد هذه الترجمة العربية للقصيدة بطبيعتها وخصائصها الذاتية والفنية تفوق، القصيدة نفسها المنظمة اصلا باللغة الفرنسية ...فلنقرأ بعض ابياتها ..

 

وليكن في النسيم ما هب ساريه                       يجوب الشطآن نحوك جوبا

في جبين النجم اللجيني يلقي                          فضة الضوء في مياهك ذوبا

وليكن في شتيت ما تسمع الاذن                      وفيما نراه عينا وقلبا

ليكن هاتف من الصوت يتلو                          (قد احبا واخلصا ما احبا)!

                            

 
Top