الغجر في اسبانيا
الشاعر الإعلامي والصحفي المستقل
تجد في اسبانيا اليوم اكبر عدد من تلك القبائل الرحالة في اوربا باسم ( البوهيميين او الخيتانوس ، او الجبسي ، او الزيكوينر ) وغير ذلك واغلبهم يسكنون او بالاحرى يمكن مشاهدتهم .... منتشرين في المناطق الشرقية و الجنوبية من اندلوسيا وفي ( استرامادو ) ومملكة ( مارسيليا ) وفي ( قطلونية ) وقسم كبير منهم يتنقل بينها وبين ... فرنسا ، وكثيرا ما تشاهدوهم في اسواق القرى جنوب مارسيليا ، والرجال منهم يتعاطون عادة اعمال السمسرة والبيطرة ، او قص شعر البغال او اصلاح الاواني الرصاصية ،
اما التهريب و سائر الاعمال المخالفة للقوانين فهي خاصة بهم لاينافسهم فيها احد ، ونسائهم قارئات بخت او مستعطيات ( بمعنى متسولات ) وقد يحترفن مهنة بيع العقاقير الطبية الضارة وغير الضارة ....
ان الوصف الجسمي يمكن ان يقربهم الى الذهن اكثرمن الوصف الكتابي ، فالواحد منهم يمكن اخراجه من بين الف ....!
وتقاطيع الوجه و السحنه هما الصفتان البارزتان الكفيلتان بتمييزهم عن سائر السكان الذين يعيشون معهم ، فبشرتهم دكناء تقرب الى السواد وهي في كل الظروف اكثر اسمرارا من الناس الذين يعايشونهم ، و الكالي اي (الاسود ) هو الاسم الذي يطلقونه على انفسهم ، واعينهم قليلة الانحراف ، سوداء الحدقة ، ونظراتهم ثاقبة حادة ، وحواجبهم كثة غليظة ، ويمكن تشبيه نظراتهم بنظرات الوحش الكاسر . ويمكن ان نرى الجراة والانطواء على النفس من سيمائهم ! اما اعينهم فتوضح اخلاقهم وهي الحيلة و الجراة و الخوف ، و اغلب رجالهم متناسقوا الابدان رشيقوا الحركات رياضيوا المظهر ، ولا اذكراني رايت بدينا او مترهلا بينهم ....!
والغجريات الالمانيات تغلب عليهن مسحة الجمال المطلق . اما الجمال في الاسبانيات منهن فشديدات الجاذبية و هن صغيرات فاذا كبرن وانجبن قبحت صورتهن ...!
وقذارتهم . ذكورا او اناثا تجل عن الوصف ، ومن لم يرلمة شعر قرطبية غجرية يصعب عليه الحكم الا اذا تمثل شعر رقبة اقذر البغال واضخمها
جسما ! وفي بعض مدن اندلوسيا الكبيرة يبذل بعض الغجريات قليل عناية بمظهرهن وهن يؤجرن لعرض الرقصات الشبيهة بتلك التي يمنعها القانون في الحفلات العامة الراقصة ...
ان مستر ( بورو ) الانكليزي مؤلف خير كتابين عن الغجر في اسبانيا ، والذي حاول التبشير بالمسيحية فيهم بوصفه عضوا في جمعية التبشير بالكتاب المقدس ... اشار الى انه لم توجد غجرية واحدة تزوجت اواحبت رجلا ليس من بني جنسها ، واراه يبالغ كثيرا في مدح عفافهن بلا تحفظ . فاغلبيتهن ممن يصدق عليه قول الشاعر الروماني ( اوفيد ) اثناء تعريضه بالحالة اليائسة التي تجد الفتاة نفسها فيها : انها عفيفة طاهرة ، لاتها لاتجد من يريدها !! و الجميلات منهن ككل الاسبانيات الفاتنات يتعسفن في اختيار عشاقهن ، وعلى العشاق ان يستميلوهن و يسترضوهن حتى ينالوهن ببذل اعظم الجهود ... ويذكر مستر ( بورو ) مثالا عن عفافهن ، وهذا المثال يقوم دليلا على عفافه او سذاجته بالاحرى، يقول مستر ( بورو ) ما خلاصته ان احد الرجال المستهترين الغرانيق . يعرفه هو ، اعطى بعض القطع الذهبية لاحدى الغجريات ! واني قدرويت هذا الكلام لاند لوسي فاجاب : ( اعطاء نقود ذهبية لغجرية امر لايصدقه العقل ، فهذا العطاء يشبه اعطاء احقر الخادمات مليونا او مليونين !) مع ذلك كله ، فالغجريات يخلصن لازواجهن اخلاصا لا مثيل له ، وليس ثمة عذاب او صعاب لا تخوضها الغجرية لانقاذ زوجها و معونته عند وقوعه في مأزق ، ومن الاسماء التي يتسمى الغجر ( رومي Romi ) ومعناها – الزوج – وهذا يقوم دليلا على مدى تقديس معشر الغجر لرباط – الزوجية !
ويمكننا القول على العموم ، بان الميزة العظمى التي ينفردون بها هي ( الوطنية ) ان جاز لنا اطلاق هذه الصفة على الاخلاص المتبادل بين افراد القبيلة الواحدة ، ثم الاسراع الى النصرة وتكتم السر في امورهم الخاصة التي لا يصح فضحها امام الاغراب ، فهذه الاخلاق موجودة ايضا في كل الدوائر السرية و الجمعيات الخارجة عن القوانين !
زرت قبل بضعة اشهر احد مضارب الغجر في جبال ( الفوج ) الفرنسية فرايت عجوزا في احدى الخيم كانت زعيمة الجماعة وكان في خيمتها غجري اجنبي لايمت الى عشيرتها بصلة قرابتها هو مصاب بداء عياء و
الموت منه قاب قوسين او ادنى ، كان قد خرج من المستشفى الذي لقي فيه عناية كبيرة كي يموت بين جنسه ! وها قد مر عليه ثلاثة عشر اسبوعا في ضيافة العجوز ، تكرم مثواه وتعني به اكثر من ابناء العشيرة واصهارها اللذين يعيشون في الخيمة نفسها ، وكانوا قد مهدوا له فراشا من العشب اليابس اللين ، ووضعوا فوقه ملاءة نظيفة ، وبقى افراد العشيرة الاحد عشر ينامون على لوح خشبي عرضه ثلاث اقدام ! تلك هي اخلاقهم الرفيعة في اكرام الضيف !
كانت العجوز بدرجة من المودة و الاخلاص لنزيلها المريض ان قالت بياس واستسلام وهي واقفة امامه :-
انه سيموت عما قريب ولا حيلة له ......... ذلك لانه حياة هولاء الناس حافلة بالبؤس و الاخطار حتى ان حديث الموت امامهم لايفزعهم كأي حديث عادي ! هنالك ظاهرة اخرى فيهم عدم احتفالهم بامور الدين لا لانهم من فريق المرتا بين . او ممكن ينكرون وجود الله فهم ابعد الناس عن ذلك ودين البلد الذين هم فيه هو دينهم على ان الخرافات و الاوهام التي تسدمسد الدين عند الشعوب البربرية ، لا اثر عندهم ، وكل ضروب الدجل و الشعوذة التي لا يصدقها البشر السوي ، لايؤمنون بها ايضا ..... غير اني وجدتهم يخافون خوفا شديدا من لمس جثة الميت ، وتكاد لا تجد احدا يرضى ان يحمل جنازة الى مدفنها !
قلت سابقا ان اغلب نساء الغجر هن عرافات و قارئات كف بارعات . ولكن اعظم مصدر لربحهن هو بيع ( طلسم الحب) وهم يعتزون بساق الضفدعة كتميمة تحفظ اخلاص القلب المتغير ولديهم مسحوق حجري لو وضعت امامه حديدا لانجذب اليه ، واذا جعل الانسان في جيبه لاحبه من كرهه ، فاذا لم تفد تلك التمائم شيئا ، عمدوا الى بعض الادعية و الصلوات الى الشيطان ليخف الى نجدتهم في سحرهم هذا ....
وقد قصت علي سيدة اسبانية قبل عام واحد القصة التالية :- ( قالت انها كانت تسير مرة في طريق الكالا وهي شديدة الحزن كاسفة البال . واذا بغجرية متربعة على الارض تناديها قائلة :-
*- ايتها السيدة الجميلة ، ان حبيبك قد خانك ( وكان ذلك صحيحا ) اتريدين ان يعود اليك ؟!
واترك لك المجال لتتصور مقدار السرور الذي شمل السيدة لدن سماعها هذه
النبؤءة . فلقد استطاعت تلك الغجرية ان تتكهن بأسرع من لمح البصر ان تكشف اعمق اسرارها ، فأي ثقة تضاهي الثقة التي ستودعها اياها السيدة ؟! ولما كان يتعذر على الغجريات القيام بسحرهن في شوارع ( مدريد ) فقد اتفقت مع السيدة على موعد لاحق ولما اجتمعت قالت الغجرية : ( من السهل جدا اعادة حبيبك اليك اعندك منديل او ملاءة اهداها لك ؟!) فناولتها السيدة قطعة حرير ، فقالت الغجرية :-
*- والان ضعي قرشا في احدى زوايا وخيطيه بخيط قرمزي وضعي قرشا اخر في اخر الزواية الاخرى وخيطيه وضعي قطعة اصغر في تلك الزواية وفلسا في الرابعة . وفي الوسط قطعة ذهبية، والاحسن ان تضعي ( اثنتين ) ؟ !!! ثم اعطني المنديل لاضعه في مقبرة ( مدريد ) عند انتصاف الليل ، وان شئت جئت معي ، وهناك ساريك شيئا من عمل الشيطان و لتثقي ان حبيبك سيعود اليك بعد ذلك ... !
على ان الغجرية ذهبت الى المقبرة وحدها فقد كانت السيدة تخاف الشياطين ، واترك تفكيرك ليحكم فيما اذا استعادت السيدة منديلها وحبيبها ام ضاع منها الكل ؟!!
وهم مع كراهية اهل البلد لهم والاحتقار المنصب عليهم يتمتعون بمكان واحترام عند سفلة القوم و رعاعهم . وانهم ... ليفخرون بهذا المكان ، ويرون انفسهم شعبا راسخ الذكاء و يسخرون بالشعوب التي ترعاهم و تستضيفهم سخرية المغرور المختال ....!
حيث قالت احدى غجريات جبال ( الفوج ) :-
*- ان سكان المدن من السذاجة والغباء واضحتين حتى اني لا اكلف نفسي عناء و صفها
، فقبل ايام نادتني قروية وهي من قارعة الطريق فدخلت ، وكانت النار مضطرمة في موقدها فسالتني ) الا تقراين كفي ؟!) وقبل ان اقوم بهذا طلبت منها قطعة لحم خنزير اسد بها جوعي فاعطتني منها ، واخذت وانا اكل اللحم اقول لها بلغتي ( انت غبية ولدت غبية و ستموتين غبية ) ولما دنوت من الباب قلت لها بالالمانية الفصحى(ان شئت ان لا يخرج من موقدك دخان ، فلا عليك الا ان تبقيه خامدا )
قلت هذا و اسرعت هاربة باسرع مما تحملني قدماي !
ان تاريخ الغجر اشبه بمعضلة يتعذر حلها . وقد ثبت لدينا ان قوافلهم الاولى كانت ضئيلة جدا ، حيث شوهدت في شرقي اوربا في اوائل القرن الخامس عشر . الا اننالا نستطيع الجزم بمنبتهم الاصلي ، او بالدافع الى هجرتهم من موطنهم الحقيقي الى اوربا واغرب ما في الامر اننا لا يسعنا الا الاحتيار في تعليل تكاثرهم السريع بمدة وجيزة وبصورة عظيمة وفي بلاد مختلفة ومتباعدة ! والغجر انفسهم يقرون بانهم فقدوا كل ما يصلهم بالماضي ، فهم يميلون الى الاعتقاد بان وطنهم الاول و الحقيقي هو ( مـــصر ) وتبنوا هذه الخرافة كحقيقة واخذوا يرد دونها منذ زمن بعيد ...!
ان اكثرية الباحثين يرون ان اصلهم ( هندي ) اذ يبدون ثمة جذورا لغوية عميقة تصل بين لغتهم الروماني و بين سائر اللغات التي خرجت من السنكسريتية ، ويمكن القول ان تجوالهم الدائم في مختلف الدول ادخل على لسانهم كثيرا من الكلمات الاجنبية ، فنجد في لغتهم كثيرا من التعابير اليونانية ، ولا يمكن الاحاطة بلهجاتهم المحلية فهي عديدة بقدر جماعاتهم المبثوثة في الدول كافة ، وهم يتقنون لغة كل بلد نزلوا فيه و يتخاطبونها بأسهل مما يتخاطبون بلغتهم و لا يستعملون لغتهم الخاصة الا عندما يريدون التحدث بحرية فيما بينهم ، وفي حالة لوكان لديهم سر لايريدون ان يقف عليه سكان البلاد !
وبمقارنة لهجتين غجريتين لفريقين احدهما يسكن المانيا و الاخر اسبانيا ، نجد تشابها في تعابير كثيرة من كلتا اللهجتين . مع انهما متباعدتان احداهما عن الاخرى قرونا عدة . ومرد ذلك هو ان لغة الاصل لكلتا اللهجتين طرا عليها تغير عظيم من جراء احتكاكها بلغة تفوقها رقيا اذ لم يكن لمعشر الغجر مندوحة من التخاطب بتلك اللغات الراقية ، وهكذا دخلت عناصر جديدة الى لغتهم ، فأثرت الالمانية و الاسبانية كل واحدة من جهتها على لغة الغجر حتى تعذر على الغجري ساكن ( الغابة السوداء ) بالمانيا ان يتفاهم مع احد بني جنسه الساكن في اندلوسيا انهما يعرفان حق المعرفة بانهما يتحدثان بلغتهما الخاصة لكنهما لا يتفاهمان مطلقا ؟!!===============================