سليمان جبران: "بعيد استقلال بلادي"!
في كل سنة يجيئنا عيد الاستقلال ليذكّرنا بما كان. يأتي شهر أيّار، وما أسرع ما يأتي، فيحلّ "عيد الاستقلال السعيد". ولا يخلف الميعاد. "أراقب وقته من غير شوق". تماما مثل المتنبي وحكايته مع حُمّاه. على كلّ حال، اشكروا ربّكم أنّ السنة فيها أيّار واحد، يفاجئنا بعد نيسان، لا غير!
في الماضي، أيام الحكم العسكري بالذّات، كان يوم الاستقلال يوما له ما بعده. وله ما قبله أيضا، وهذا هو الأهمّ ، في حياة "المواطنين العرب، وفي المدارس بوجه خاصّ. هذا أيضا هو ما يقفز إلى الذاكرة كلّ سنة، دونما استئذان، كلّما هلّ العيد السعيد .
فقرة معترضة: لم يعد العرب، في أيّامنا هذه، بفضل الأجيال الجديدة الواعية، وانقلاع الحكم العسكري، يحتفلون بذكرى الاستقلال. معظم العرب على الأقلّ. بل إنّ الاستقلال غدا مناسبة بارزة، يستعيد فيها العرب هنا ما كان سنة 48 من تشريد وويلات. يزورون "أطلال" إحدى القرى المهدّمة منذ ال 48، ليستذكروا ما كان. تغيّر نوعيّ بارز، يُشكر عليه من بادر إليه أوّل مرّة قبل سنين، والقائمون على مواصلته كلّ سنة. لكنّي أريد أن أحدّثكم هنا عن سنوات الماضي البعيد. وفي الماضي، كما علّمونا، عبرة أيضا لمن يريد الاعتبار. فخلّوني أكمل قصّتي!
في يوم الاستقلال، كانت السلطات الرشيدة تسمح للعرب بكلّ شيء. السفر بحرّية تامّة إلى كلّ الأماكن بدون تصريح من سعادة الحاكم العسكري. ركوب أكبر عدد ممكن من الناس في سيّارات الشحن حتى، تماما مثل البطيخ، لكي يحتفلوا بالعيد السعيد على أحسن وجه. السفر إلى أماكن كثيرة محظورة في العادة على العرب ... والغرق أخيرا في مياه بحيرة طبريّا احتفالا بالعيد السعيد!
في هذه الأيّام، تعود بي الذاكرة إلى الماضي البعيد، وإلى احتفال المدارس بعيد الاستقلال السعيد. لا أظنّ المدرسة التي عملت فيها يومها كانت شذوذا. على كلّ حال، دعوني أصف لكم كيف كانت مدرستنا تلك تحتفل بالمناسبة السعيدة. وعليه قسْ!
قبل العيد بشهر وأكثر، كانت الدراسة تتعطّل عمليّا في المدرسة. نكون في الدرس، فيقرع أحد التلاميذ الباب: أستاذ، الفرقة الرياضيّة! فيخرج التلاميذ المشاركون في التدريبات الرياضيّة. دونما استئذان طبعا. التعليم مهمّ لكن التحضير للحفلة أهمّ طبعا. في درس بعده يخرج المشاركون في التمثيل، وبعده المشاركون في الجوقة.. وهكذا. طبعا أنت لا تعترض، ولا تستطيع الاعتراض حتّى. هل تعليم اللغات والريّاضيّات وغيرها من المواضيع الدنيوية أهمّ من الاحتفال بعيد الاستقلال السعيد؟ - "عيد استقلال بلادي"؟
قبل الاحتفال بأسبوع، كان المدير يعقد للمعلّمين، يعني لنا، اجتماعا خاصّا، لوضع برنامج الاحتفال، وتوزيع المهمّات على المعلّمين في يوم الاحتفال. في آخر الاجتماع، كان المدير يوزّع المهمّات على المعلّمين في يوم الاحتفال. كنت أوّل من يرفع إصبعه. أخاف أن يسبقني أحد المعلّمين إلى "لجنة النظام". أندسّ خلال الاحتفال بين التلاميذ، أتأمّل ما يجري، وأنفرد بهواجسي وحيدا. على فكرة: كان من مهمّاتي أيضا، بعد حصول "الألفة" بيني وبين المدير، أن أقرأ له خطابه الذي سيلقيه في الاحتفال. لئلا تقع فيه أخطاء لغويّة يعني. مع ذلك لم أستطع الامتناع ذات احتفال عن تذكير المدير بأن تجفيف الحولة أكل الدهر عليه وبال. فوجئ بملاحظتي المتحدّية، فأجاب مسرعا: كلّ سنة خطاب! من أين نأتي بجديد؟ احذفها يا أخي، وخلّصنا من الحولة وتجفيفها!
من شذرات الاحتفال بالعيد السعيد، ما زالت في البال أيضا أنشودة "بعيد استقلال بلادي". بحثت بالسراج والفتيلة لأتعرّف كاتب الأنشودة المذكورة فلم أفلح. يبدو أن مؤلّفها رماها في السوق واحتجب خجلا! سمعت أخبارا شفهيّة متواترة عن "الشاعر" صاحب الأنشودة. مع ذلك، لا أرغب في إدانة الناس بالاعتماد على الشهادة الشفهيّة فحسب. كثيرون من الأجيال الشابّة لا يعرفون النشيد المذكور. هذه ثغرة كبيرة في ثقافتهم العامّة طبعا. لذا فإني أنقل إليهم ما بقي في الذاكرة، رغما عنها وعنّي، لكثرة ما سمعتْ وقرفتْ:
بعيد استقلال بلادي غرّد الطير الشادي
عمّت الفرحة البلدان حتّى السهل والوادي
والشعب يغنّي فرحان متهنّي
يحلاله الترتيل في عيد اسرائيل
دمتِ يا بلادي
هذا "التراث" يستحقّ التسجيل، مثله مثل غيره من التراث. حتّى لا ننسى. خُلق الإنسان نسّاء!
لكن هناك ما لا يُنسى طبعا، لأنّه مسجّل حبرا على ورق. خلال بحثي عن "وثائق" لتلك الأيّام السعيدة، وقع في يدي كرّاس بعنوان "في مهرجان الأدب". من إصدار "صندوق الكتاب العربي" سنة 1959، احتفالا بعيد الاستقلال العاشر. في الكرّاس المذكور قصائد ومقالات ومسرحيّات فازت في المسابقة "الأدبيّة" بمناسبة العيد العاشر لدولة إسرائيل. فيه أيضا صور لجميع من فازوا في المسابقة الأدبيّة في تلك المناسبة. لا أريد هنا ذكر الأسماء الواردة هناك طبعا. من باب "وإذا بليتم فاستتروا". مع ذلك، لن أحرم نفسي والقرّاء من قراءة بعض الشواهد القصيرة، من القصائد الشعريّة هناك، دونما ذكر لأصحابها طبعا. ومن شاء التوسّع فالكرّاس المذكور ملقى في المكتبات، حافل بروائح ذلك الزمان!
(1)
قامت على أرض الجدود كريمة تحيي تليد المجد بعد تشرّدِ
تبني وتدعو للسلام يمينها والسيف عند يسارها للمعتدي
يا ربّ حقّق في الحياة مرامها وأنرْ لها الدرب السويّ لتهتدي
لا فرق بين يهودها أو عُرْبها فالكلّ أعضاء بجسم واحدِ
هل من يلوم إذا جُننتُ بحبّها؟ يا قلبُ لا تخشَ الملامة بلْ زدِ
واهتفْ معي، واليوم عيد نضالها هذا الدعاء كما ستهتف في غدِ
"دامت على طول الزمان عزيزة يزدان مفرقها بتاج السؤددِ"
(2)
إلى متى، يا أخي، نجترّ ماضينا نبكي عليه ولا شيء يعزّينا
ألقوا السلاح، فإن ّ الحرب مهلكة واهدوا إلى الناس زيتونا ونسرينا
يا حامل المدفع الرشّاش خلِّ لنا في قلبك الرحمة السمحاء واللينا
يا قوم، إنّ بني اسرائيل إخوتنا فالكلّ يعلم والقرآن يهدينا
يا قوم إنّ الإله اختار شعبهمُ وشرّف الناس في موسى وهارونا
لهفي على العُرب قد أعمى بصائرهم حبّ العناد فهل يجدي ترجّينا
في كلّ يوم لهم في القول ملحمة وكم سمعنا خطابات وتلقينا
(3) باللغة المحكيّة أيضا
إسرائيل دولة المجد قلّد جيدها وبتفاخر الأجيال في تشييدها
دولة عرفنا النور فيها من الظلام واجب علينا ان نبتهج في عيدها
واجب علينا كل ما يمرّ عام هذي الفروض الواجبة تسديدها
أضحت قرانا الرائعة بروس الأكام فيها الشوارع انتظم تعبيدها
إسرائيل دولة كل ما فيها تمام وحبّ التقدّم دينها ومعبودها
نضيف أخيرا أن الأبيات أعلاه هي أبيات مختارة، من قصائد "عامرة" طبعا، ولم تظهر هناك بهذا الترتيب. فمن شاء قراءة القصائد كاملة، بترتيبها الأصلي، وتعرّف أصحابها طبعا، فعليه الرجوع إلى المصدر المذكور أعلاه. يمكنه هناك قراءة نتاج نثري كثير أيضاّ !